لمحة تاريخية عن تطور علم النفس ( تاريخ علم النفس )
بسخي لوقوس Psyché Logos كلمة يونانية تعني في اللغة العربية كلمة Psyche النفس أو الروح و Logos العلم ولذلك فإن الترجمة العربية احتفظت بالإشارة إلى هذا العلم بعلم النفس لتكون النفس هي مناط دراسته من جهة وأن الروح ليس محل دراسة أو من إختصاص الإنسان لقوله تعالى في سورة الإسراء الآية 85 : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .
ابرز المراحل التاريخية في علم النفس
علم النفس و الفلسفة
ولقد كان علم النفس قبل الميلاد بزمان طويل فرعا من الفلسفة ، علما يهتم بدراسة الروح ، مصيرها ، خلودها وذهب فلاسفة بالقول الى ان الروح مادة كالهواء لكنها بلغت حدا كبيرا من الرقة والشفوف ، حتى إذا جاء أفلاطون وقال : إن لأفكار الإنسان تأثيرا كبيرا في سلوكه ، لكنه كان یری ان هده الأفكار لها وجود مستقل عن الإنسان ،فهي تقيم في الجسم أثناء الحياة ثم تتركه عند الموت .
ثم خطا علم النفس خطوة كبرى في الإتجاه العلمي حين أشار أرسطو إلى أن الروح أو النفس ما هي إلا مجموع الوظائف الحيوية لدى الكائن الحي ، أي وظائف الجسم ، وبها يتميز عن الجماد ، ومن دونها لا يكون الجسم أكثر من جثة ، وعلى ذلك تكون الحالات النفسية نتيجة عمليات جسمية .
وقد ترتب عن هذه النظرة أنه لم يعد من الضروري البحث عن تفاسير للحالات النفسية خارج نطاق الإنسان، كما أنه كان أول باحث حاول أن يفهم بصورة منظمة الطرائق التي يفكر بها الإنسان، وصاغ قوانين في تداعي المعاني سادت علم النفس أكثر من عشرة قرون لذا يمكن إعتباره بحق المؤسس الأول لعلم النفس .
ثم انتقلت تعاليم أرسطو إلى فلاسفة العرب و مفكري العصور الوسطى من الأوروبيين، فظل هؤلاء جميعا يجادلون ويناقشون طبيعة النفس وخلودها ومصير الإنسان حتى أعياهم الأمر، فانقسموا إلى قسمين إختص الأول وهم رجال الدين بدراسة الظواهر الروحانية ، وإختص الثاني و هم الفلاسفة وعلماء النفس بدراسة الظواهر العقلية فكانت هذه أول بادرة لإنفصال علم النفس عن علم الإلهيات فبعد أن كان علم الروح أصبح علم العقل، وكانت الصلة بين العقل والجسم أكبر القضايا،.
وقد حاول الفيلسوف الفرنسي ديكارت حل هذه القضية – قضية العلاقة بين العقل والجسم – فقال إنهما شيئان مختلفان متمايزان كل التمايز وليس بينهما إرتباط طبيعي ، فالخاصة الجوهرية للجسم هي الإمتداد، أي شغل حيز من الفراغ ، في حين خاصة العقل عند الإنسان هي التفكير والشعور، أما الصلة بينهما فهي صلة تفاعل ميكانيكي يحدث في الغدة الصنوبرية في المخ.
لقد كان ديكارت يرى أن الكائن الحي من إنسان أو حيوان ما هو إلا آلة معقدة ينشطها الضوء والصوت وغيرهما من المنبهات التي يحمل أثرها مائع رقيق سماه أرواح الحيوانات إلى الغدة الصنوبرية ومنها إلى العضلات في صورة دوافع تؤدي إلى حركة الجسم. هذا كل ما يحدث في الحيوان، وبعبارة أخرى فالحيوان لا يحس ولا يشعر بل يستجيب للمنبهات الخارجية كما تستجيب مضارب الآلة الكاتبة للمس الأصابع .
أما عند الإنسان فأرواح الحيوانات حين تلج الغدة الصنوبرية فإنها تثير فيه مشاعر وإنفعالات وأفكار وصور ذهنية أي أن الإنسان بخلاف الحيوان له عقل ، وهذا العقل هو الذي يوجه الألة الإنسانية ويجعل الإنسان يتصرف تصرفا معقولا ، والشعور أهم خاصيّة للعقل ، الشعور بالمعنى الواسع الذي يجمع كل الحالات الشعورية من تفكير وتذكر وتصور ومشاعر وإنفعالات ورغبات.
و من ثمة أخذ الباحثون يهتمون بدراسة الشعور وأصبح علم النفس علم الشعور يدرس الحالات و الخبرات الشعورية كالتفكير والتذكر والإنفعال – يصفها ويحللها إلى إحساسات وأفكار وصور ذهنية ومشاعر… كما يحلل الكيميائي المواد إلى عناصرها… وكان المنهج المتبع في البحث هو الملاحظة الداخلية أو التأمل الباطن ، ويتلخص في ملاحظة الفرد لما يجري في شعوره من خبرات حسية أو فكرية أو وجدانية مختلفة قصد وصف هذه الخبرات وتحليلها أو تأويلها أحيانا كأن يلاحظ الفرد ما يجري في شعوره أثناء عملية التفكير أو أثناء إنفعال الحزن أو الغضب.
وفي الوقت الذي كان فيه ديكارت ينشر مذهبه ظهرت في إنجلترا مدرسة تسمى الترابطية أسسها جون لوك( 1754- 1632 )ومن أنصارها البارزين هارتلي، ستيوارت ميل و هربرت سبنسر، وقد كان لهذه المدرسة أثرا كبيرا في توجيه الدراسات النفسية حتى نهاية القرن الماضي من المسلمات الرئيسية والأساسية لهذه المدرسة أن الكائن البشري يولد وعقله صفحة بيضاء تنقش عليها الخبرات الحسية ما تريد ، فليس قبل الخبرة في العقل شيئ هذه الخبرة تأتي عن طريق الحواس، فالإحساسات حسب الترابطية عناصر العقل ووحدته وذرته، غير أن هذه الإحساسات تكون في بادئ هي عن الأمر غير مترابط ولا منظمة ثم تترابط هذه العناصر وتنتظم لما بينها من تشابه أو تضاد أو تجاوز في الزمان والمكان فتنشأ هذا الترابط العمليات العقلية جميعها كالإدراك والتصور والتخيل والتفكير والإبتكار والترابط في نظر هذه المدرسة هو عملية آلية ميكانكية تشبه الجاذبية في العالم المادي أو تشبه التآلف بين الذرات بعضها بعض وبين العناصر بعضها بعض، والذي تتكون منه المواد المركبة في عالم الكيمياء ومن ثم كانت مهمة علم النفس في نظرها تحليل المركبات العقلية و الشعورية إلى عناصرها من إحساسات وصور ذهنية ثم تفسير تجمعها وانتظامها في وحدات مركبة.. كل ذلك عن طريق التأمل الباطن.
لقد ظل علم النفس فرعا من الفلسفة العقلية التأملية لوقت طويل، وبالرغم من أن موضوعه تحدد بعض الشيئ لكن طريقته في البحث بقيت تعتمد إلى حد كبير على منهج الفلسفة في البحث أي علم النظر والتأمل و البرهان الجدلي في قضايا نفسية خالصة كتحليل المركبات العقلية إلى عناصرها، وكذلك في قضايا ذات طابع فلسفي صريح مثل: ما الطبيعة القصوى للعقل؟ هل العالم الخارجي عالم واقعي من خلق الخيال؟ هل للإنسان إرادة حرة؟.. وقد كان الخلاف على هذه القضايا كبيرا بين الباحثين لأن النظر والتأمل دون سند من الطرائق العلمية للملاحظة والتجربة يؤدي حتما إلى الإختلاف.
ولما ظهر داروين 1882 . 1809 – بنظريته التطورية كان لهذه النظرية أثرا عميقا في علم النفس، إذ قضت على الرأي الشائع بانفصال الحيوان عن الإنسان انفصالا جوهريا، وأكدت أثر الوراثة في الوصل بين الماضي البعيد للخليقة وبين حاضرها، كما أكدت أثر البيئة في تطور الكائنات الحية وبقاء الأنسب في معركة الحياة.
ويقول عزت راجح :لما ظهرت نظرية داروين أثارت موضوعات ومشكلات جديدة لم يعهدها علم النفس من قبل، فبدأ علماء النفس يهتمون بدراسة سلوك الحيوانات المختلفة وغرائزها وذكائها وعملية التعلم لديها.. كما زاد أيضا إهتمامهم بدراسة مراحل النمو النفسي في الفرد وفي النوع وتأثرهما بكل من الوراثة والبيئة هذا إلى جانب إهتمامهم بدراسة الفروق الفردية بين السلالات المختلفة.. ولا يخفى أن هذه الدراسات المختلفة على الحيوان والطفل لا يجدي التأمل الباطن في تناولها.. ومن ثم قل الإهتمام بدراسة الشعور وزاد الإهتمام بدراسة السلوك.
علم النفس و القرن 19
وكان علماء الفيزيولوجية في مطلع القرن التاسع عشر يجرون بحوثهم على نمط مغاير حيث كانوا يطرحون على الطبيعة أسئلة معينة ثم يقومون بالملاحظات والتجارب للحصول على أجوبة لهذه الأسئلة وقد أدى بهم هذا المنهج التجريبي إلى الكشف عن كثير من الحقائق والمبادئ كالكشف عن الدورة الدموية وعن مناطق المخ التي تهيمن على الحركة عند الإنسان والحيوان ، وعن سرعة التيار العصبي.. وقد كان لهذا المنهج ميزة بالغة عن منهج النظر والتأمل الباطن، إذ كان يستطيع كل متشكك في نتائج الملاحظات والتجارب أن يعيدها ويكررها بنفسه للتحقق من صحتها أو بطلانها كما كان هذا المنهج متبعا في علم الفزيقيا، مما جعل بعض الباحثين في علم النفس يصطنعونه في دراسة الظواهر النفسية.
علم النفس الحديث
في عام 1879 أسس فيلهلم فونت Wilhelm Wundt اول مخبر لعلم النفس التجريبي بجامعة ليبزيغ بألمانيا، وهو معمل مزود بأجهزة وأدوات خاصة لإجراء تجارب على الحواس المختلفة من سمع وبصر ولمس، وأخرى على كيفية التذكر والتعلم والتفكير و الإنتباه وقياس سرعة النبض والتنفس أثناء الإنفعال.. وقد دلت الدراسات التجريبية التي أجراها علماء النفس ـ بعد أن أسس العالم الألماني فونت أوّل مخبر لعلم النفس التجريبي ـ على أن معظم الوظائف النفسية كالتفكير والتعلم والتذكر والنسيان والإنفعال يمكن أن تدرس دراسة موضوعية أي دون الإشارة إلى الحالة الشعورية للشخص الذي تجرى عليه التجربة.. ففي دراسة التذكر مثلا يعطى للفرد نصاً يحفظه في ظروف معينة – وهو مستريح أو وهو منفعل – ثم يسجل المجرب مدى اتقانه للحفظ وسرعته، ثم يعطي بعد ذلك نصا أخر مساويا في الصعوبة للنص الأول لكن في ظروف أخرى غير الظروف الأولى.. ويلاحظ المجرب ما إذا كان الحفظ في الحالة الأولى أحسن أو أقل منه في الحالة الثانية، ومن ثم يمكن الكشف عن الظروف المواتية للحفظ وإستخلاص نتيجة عن طبيعة عملية التذكروخلال هذه التجربة لا يكون هناك داع على الإطلاق ليستخدم الفرد التأمل الباطن ،فمنذ هذا التاريخ تأسس مخبر علم النفس التجريبي وحق بعد ذلك لعلم النفس أن يتخذ مكانا إلى جانب العلوم الطبيعية التجريبية، وأن يصبح علما مستقلا عن الفلسفة من حيث منهجه في البحث، وسرعان ما أسست معامل أخرى كثيرة خاصة بعد أن أصبح علم النفس علم السلوك.
وكانت هذه بادرة ظهور المدرسة السلوكية التي أسسها واطسون الإمريكي في مطلع القرن الماضي، وهي مدرسة تنظر إلى الإنسان على أنه آلة ميكانيكية معقدة، وأرتأت أن يقتصر موضوع علم النفس على دراسة السلوك الحركي الصريح للإنسان والحيوان عن طريق الملاحظة الموضوعية البحتة أي دون الإشارة إلى ما يخبره الفرد من حالات شعور أثناء ملاحظته أو إجراء التجارب عليه.
لذا فهي رفضت إصطناع التأمل الباطن – الإستبطان – رفضا صريحا وحوالي الوقت الذي كان فيه علم النفس يتخلص من التأمل الباطن والإبتعاد عن دراسة الشعور والإهتمام بدراسة السلوك دراسة موضوعية، جاء الطبيب النمساوي سيغموند فرويد وأثبت بأدلة قاطعة على وجود حياة نفسية لا شعورية إلى جانب الحياة الشعورية، بل ليست الحياة الشعورية إلا جزءا يسيرا من الحياة النفسية بأسرها.. ومن ثم إتسع مدلول الحياة النفسية وامتد أفاقها، فانبسط ميدان علم النفس وموضوعه.
فبعد أن ظل علم النفس قرونا يقتصر على دراسة الخبرات الشعورية، إذ به أصبح يرى نفسه مضطرا إلى أن يحسب للعوامل اللاشعورية حسابا كبيرا في تفسير الظواهر النفسية السوية والشاذة، وبدت الحاجة ماسة إلى منهج جديد في هذه الحياة اللاشعورية التي لا يمكن دراستها عن طريق التأمل الباطن، بل بطرائق غير مباشرة كملاحظة السلوك الخارجي للفرد وتعبيراته اللفظية.
وهكذا أخذ علماء النفس يعرضون عن تعريف علم النفس بأنه علم الروح وعلم الشعور ويميلون إلى تعريفه بعلم السلوك يدرسونه دراسة موضوعية كما تدرس الظواهر الطبيعية والبيولوجية، أي دراسة تستغني عن التأمل الباطن ودون الإشارة إلى كيفية شعور الشخص بما يحدث له أثناء ملاحظة سلوكه أو إجراء التجارب عليه.. دراسة تهتم بما يعمله الفرد لا بما يشعر به.
ومن ثم أصبح علم النفس يعرف بعلم السلوك، أي العلم الذي يدرس السلوك دراسة موضوعية ويتخذ منه وسيلة لدراسة الحياة النفسية الشعورية واللاشعورية، فهو يستدل من السلوك الظاهر للناس على ما يحفزهم من دوافع، وما يشعرون به من انفعالات و ما يحتضنونه من عواطف و معتقدات و ما يتسمون به من قدرات و مواهب و استعدادات .
المرجع:
عبد الرحمن الوافي، (2010)، المختصر في مبادئ علم النفس، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر .